Wednesday , 24 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

اتجاهات التغيير في السودان

بقلم عبدالوهاب الأفندي

11 ديسمبر 2012 — معروف عن نائب الرئيس السوداني الأستاذ علي عثمان محمد طه إعجابه الشديد بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين وحزب البعث العراقي. وكان كثيراً ما يحدث جلساءه كلما عاد من زيارة إلى بغداد بما يشبه الحسد عن الانضباط الشديد الذي يتمتع به حزب البعث، حتى أن قيادة الحزب، كما كان يروي، تراقب وزن القيادات الوسيطة والعليا كل شهر، ومن زاد وزنه يتم إنزاله درجة في القيادة! وبدلاً من انتقاد مثل هذه المعاملة المهينة للقيادات الحزبية، والتي لا يوجد مثلها حتى في القوات المسلحة، كان يشيد بها ويقارنها بما يراه من تفلت وعدم انضباط أعضاء وقيادات الحركة الإسلامية السودانية. وقد كانت لقيادات النظام السوداني علاقات وثيقة مع حزب البعث العراقي، وكذلك السوري، على المستوى التنظيمي وكذلك على المستوى المخابراتي. ولعل النظام السوداني الحالي هو الوحيد في العالم الذي تمتع بعلاقة مودة مع أحزاب البعث في العراق وسوريا في نفس الوقت، إضافة إلى علاقته الوثيقة مع إيران، وهو لعمري إنجاز يستحق التنويه.

ولكن الحب الأول عند قادة النظام كان ولا يزال هو النظام الصدامي ومنهجه، حيث كانوا يتلقون من هؤلاء ‘الأصدقاء’ النصائح في كيفية التعامل مع المعارضة. ويمكن للقارئ أن يخمن محتوى هذه النصائح، وهو أمر لا يحتاج لكثير ذكاء. ولا ندري إن كان الرئيس العراقي قد كشف لأصدقائه معلومات عن ‘إنجازاته’ في هذا المجال، ومن أبرزها ما سمي بـ ‘مؤامرة ناظم كزار’ في عام 1973، أو مؤامرة صدام نفسه على رفاقه في الحزب بعيد توليه الرئاسة في يوليو عام 1979. ولم يكن صدام يخجل من فعلته تلك، بدليل أنه وزع حينها تسجيلاً تلفزيونياً لتلك المأساة-المهزلة على قادة الدول العربية الصديقة. والمعروف أن ناظم كزار اتهم بمحاولة اغتيال رئيس الجمهورية وقتها أحمد حسن البكر لدى عودته من زيارة رسمية إلى بولندا، ولكن المحاولة فشلت بسبب تأخر الطائرة. وقد اعتقل كزار عند محاولته الهرب وأعدم بدون محاكمة وبدون السماح له بالحديث، وراج أن صدام كان وراء المحاولة. أما عملية 1979 فقد قام فيها صدام بتصفية معظم منافسيه في الحزب بعد اتهامهم بمؤامرة مع سوريا للإطاحة به، وهو ما نفاه كل المتهمين.

بالطبع إن السودان ليس العراق والحركة الإسلامية ليست حزب البعث، ولكن ذلك لم يمنع البعض من الاجتهاد قدر الاستطاعة، حيث نسجت مذكرة العشرة التي قدمت عام 1998 على منوال مؤامرة كزار من حيث أن المستفيد الأكبر منها لم يظهر في الصورة، بل اتخذها حجة للتقرب من الشيخ الترابي وإظهار الولاء الزائد له، بينما استوحى انقلاب ديسمبر 1999 انقضاض صدام على رفاقه في يوليو (تموز) 1979، مع الفارق بالطبع.

ولكن يبدو أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد، لأن طه خسر اللعبة في النهاية، وتم الانقلاب عليه بينما كان يعالج مفاوضات نيفاشا، فعاد ليجد معظم مرؤوسيه قد تآمروا بالفعل هذه المرة- مع ‘البكر’ للإطاحة به وتحجيم دوره. وعندما تم الإعلان عن ‘المؤامرة التخريبية’ الأخيرة، راج في أوساط مؤيدي النظام أن طه كان ضالعاً فيها. ولعل المفارقة هي أن بعض المقربين منه كانوا من أبرز من روج لهذه الدعوى، ربما لشعورهم بأنها ستكون ناجحة لا محالة. ولكن السيد ‘النائب’ عاد فلبس قبعة صدام مرة أخرى، متوعداً المتهمين بالحسم، ومتزعماً جناح الصقور، في حين كان معظم كوادر الحزب يتعاطفون مع المتهمين ومع رسالتهم الإصلاحية، ويرون أن الحل في الاستجابة لمطالبهم في الإصلاح، وهي على كل حال مطالب معظم كوادر الحزب وكذلك غالبية السودانيين. وبينما يريد طه وبعض أركان الفساد في النظام اتباع النهج الصدامي الذي يبدأ بتشويه صورة ومواقف الإصلاحيين في الحزب الجيش، وذلك باتهامهم بتوسل الدعم الخارجي والتآمر مع بعض القوى المتمردة، وبالتالي عزلهم والبطش بهم، هناك تيار أوسع في الحزب يرى أن هذا النهج سيقود الحزب والبلاد إلى نفق مظلم.

التيار الإصلاحي داخل الحزب لم يتبلور بصورة واضحة بعد، خاصة في ظل الانقسام المستمر في داخل الحركة الذي ظل يحكم الأوضاع منذ نهاية عام 1999. وقد كان من المفترض أن يمثل المؤتمر الشعبي التيار الإصلاحي في الحركة، ولكنه لم ينجح في تبني هذا التوجه بشكل مقنع. وقد كان هذا لعدة أسباب، أبرزها أن المؤتمر الشعبي لم يقم بمراجعة فكرية حقيقية، ولم يمارس النقد الذاتي للفترة التي كانت فيها قياداته تحكم بأمرها في السودان، وتشرف على كثير من التجاوزات في حق المواطن والبلاد. وعليه فإن أطروحاتها ليست مقنعة للإسلاميين قبل غيرهم، وإنما ظلت تتحرك عبر تحالفات براغماتية، بدأت من الاتفاق الذي عقدته مع الحركة الشعبية عام 2001، ثم تبنيها لبعض حركات دارفور، وأخيراً اشتراكها في تحالف المعارضة. ولكن مثل هذه التصرفات التكتيكية لا تكفي لحركة ذات طابع أيديولوجي، بل كان ينبغي لها أن تنتهج النهج الذي اتبعته الحركة الإصلاحية في إيران بقيادة الرئيس السابق محمد خاتمي ومفكرين من أمثال عبدالكريم سوروش وسعيد حجاريان وغيرهم. وفي أضعف الإيمان، كان يمكنها أن تنهج نهج الجماعة الإسلامية في مصر التي قدمت مراجعات سياسية وفكرية بررت فيها بصورة مقنعة تحولها عن نهج العنف وباتجاه الدعم للعملية الديمقراطية التي كانت ترفضها.

ولعله من الملفت أن الحركة الإصلاحية الوليدة قد اتجهت، كما ظهر من مبادراتها الأولى مثل مبادرة نهر النيل، نحو مطلب توحيد شطري الحركة الإسلامية في إشارة إلى قناعتها بأن كلا طرفي الصراع كان على خطأ. ولعله من الملفت كذلك أن جناحي الحركة المتحاربين توحدا في التصدي لتلك المبادرة ورفضها، حيث تبرأ المؤتمر الشعبي من قياداته الولائية التي أيدت المبادرة، بينما منحت قنوات التلفزة الرسمية وشبه الرسمية منبراً نادراً لقيادات المؤتمر الشعبي لإدانة المبادرة ومن تولوا أمرها.

من هنا فإن بداية تبلور تيار إصلاحي جديد، يجاهر بتأييد الديمقراطية ويرفض الفساد والاستبداد كما جاء في ‘مذكرة الألف أخ’، وظهور تأييد قوي لهذا التيار في داخل المؤسسات العسكرية، يشير إلى بداية تحول كبير على الساحة السياسية. والسباق الآن هو بين تيارين، الأول يريد اتباع المنهجي الصدامي في القمع داخل الحزب وخارجه، وانتهاج سياسة القبضة الحديدية، أما الثاني فهو يتجه نحو اتباع النهج الإصلاحي على طريقة الحركة الإصلاحية في إيران التي قادت ‘بيريسترويكا’ إيرانية متطورة قبل أن يجهز عليها المتشددون.

الذي لا شك فيه هو أن النهج الصدامي لا مكان له في السودان، وبالأخص في داخل الحركة الإسلامية، لأن الإرهاب لن يجدي نفعاً مع الجهاديين. ومهما يكن فإن البيئة السودانية لا تسمح بمستوى الإجرام الذي ساد في العراق، رغم التدهور المريع الذي دهاها خلال العقود الثلاثة الأخيرة بسبب فظاعات الحروب الأهلية وممارسات النظام وأمراء الحرب.

ولكن هذه البيئة يتهددها دمار أكبر إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه. فالنظام يفقد السند الشعبي باضطراد، مما يضطره إلى مزيد من القمع، وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من فقدان السند. وقد وصل الأمر الآن إلى فقدان السند حتى في الحلقات الداخلية للنظام حزبياً وعسكرياً. وكنتيجة لذلك، تتصاعد الاحتجاجات ومعها أعمال المعارضة المسلحة، مما قد يؤدي إلى انهيار كامل للدولة والمجتمع، والتحول إلى فوضى عارمة تتضاءل أمام مصائبها ما كان يقع من جرائم وتجاوزات.

التحدي الآن أمام كل السودانيين، وأنصار النظام خصوصاً، هو التحرك الاستباقي لإنقاذ البلاد من المصير الذي ستؤدي إليه بالضرورة السياسات الحالية، وهو مصير سيكون وبالاً على الجميع. وربما يأتي الانهيار بأسرع مما يتوقع أو يخشى- الكثيرون، خاصة في ظل التطورات المتلاحقة الأخيرة من صراعات داخلية واضطرابات واحتجاجات، ومخاطر اقتصادية واجتماعية. وعليه لا بد من تحرك سريع لتدارك الأمور بصورة حاسمة، وذلك عبر خطوات حاسمة وسريعة لجمع الأطراف السودانية في حوار شامل وجاد لرسم مستقبل البلاد السياسي بالتوافق بين الجميع بدون إقصاء أو إكراه.

ولا شك أن انحياز قيادات وعضوية الحزب الحاكم الحاسم والعلني لتيار الإصلاح، والضغط على القيادات ‘الصدامية’ للتنحي، هو الطريق الأسرع والأقل كلفة للتغيير المطلوب. وفي مصير صدام ثم الأسد حالياً عبرة لمن اعتبر، خاصة بين أصدقائهم ومعجبيهم..

Leave a Reply

Your email address will not be published.