Wednesday , 17 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

الواقعُ يُكذِّبُ زيف الإدِّعاء

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

سألني كثيرٌ من الأصدقاء لماذا لم أكتب عن وفاة المرحوم الدكتور حسن الترابي فقلتُ لهم أنه لا يوجد لدىَّ ما أقوله فقد كتبتُ كثيراً عن فكر الرجل ومواقفه السياسية في حياته وليس هناك جديدٌ يُضاف إلى ما سطرتهُ في هذا الخصوص ، ولكنني وقعتُ على كلمةٍ للدكتور يوسف القرضاوي يرثي فيها الترابي بكلام إحتوى على الكثير من التزييف والأغاليط التي تتطلب الكشف والتفنيد.

أشار القرضاوي في كلمتهِ إلى اللقاء الذي جمعهُ بالترابي للمرة الأولى في لبنان وقال 🙁 أول ما لقيت الترابي في لبنان سنة 1985م ( هكذا وردت في النص الأصلي ويبدو أنه يقصد 1965) وكان في قمة الشباب وكان يزور بيروت في ذلك الوقت وقد قاد الحركة الشعبية الجامعية التي انتهت بإسقاط الحكم العسكري برئاسة عبود وعودة الحكم المدني إلى السودان وأذكر مما جرى بيني وبينه من حديث أني قلت له: لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش وإنما نهتم بالشعب وعندنا أن نكسب معلماً في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش، قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها ! ).

واصل القرضاوي في سرد العلاقة التي جمعتهُ بالترابي خلال الحقب السياسية المُختلفة في السودان حتى جاء للحكم الديموقراطي الأخير و الذي شهد تدبير الترابي للإنقلاب العسكري الذي وقع في يونيو 1989 فقال : (وبعد إنسداد الأفق السياسي في السودان، كان لا بد أن يقوم أحد الأقوياء في البلد بالسيطرة على مقاليد الأمور وكان الدكتور الترابي أكثرهم تصورًا وإدراكا للموقف وخطورته، وأكثر قدرة على التحرك بسرعة، فبادر إلى ذلك، واختار مجموعة من العسكريين على رأسهم عمر البشير لهذا الأمر ).

وهكذا فإنَّ القرضاوي الذي أراد أن يوضح إيمان الترابي “بالديموقراطية” ورفضه العمل وسط “الجيش” وتعهده “بإسقاط الحكومات العسكرية” التي تنقلب على الحُكم المدني، قد ولج من حيث لا يحتسب لنقطة الضعف الرئيسية في فكر الثاني والمتمثلة في التخلي عن “المبادىء” من أجل تحقيق “المصلحة” الحزبية الضيقة، وهو الأمر الذي وسم مواقفه “بالإنتهازية” وأدَّى في خاتمة المطاف لهزيمة مشروعه الفكري.

وليس أدلَّ على صدق إستدلالنا هذا من الإقتباس الثاني الذي حاول فيه القرضاوي “بمراوغة” مفضوحة و”تلاعب لفظي” مكشوف أن يُصِّور “الإنقلاب العسكري” الذي دبرَّهُ الترابي الذي كان قد إدَّعى في لقائه به في لبنان أنَّ من الأفضل له أن “يكسب معلماً في مدرسة خير من أن نكسب ضابطاً في الجيش”، بأنه تحرك من “أحد الأقوياء” الذين أدركوا خطورة الموقف في البلد !

الحقيقة المؤكدة هى أنَّ الترابي بدأ في زرع خلايا تنظيمه داخل الجيش منذ سبعينيات القرن الفائت أي بعد لقائه الأول مع القرضاوي ببضع سنوات، وهو الأمر الذي إعترف به في سلسلة لقاءاته التلفزيونية المُهمَّة مع “عزام التميمي”، مما يُنبىء بأنَّ موضوع الإنقلاب العسكري كان أمراً حاضراً على الدوام في فكر الرجل.

قد إعتقد الترابي إعتقاداً جازماً في أنَّ “الدولة” تمثل الأداة الأكثر فاعلية في إحداث التغيير الإجتماعي ولذلك ظل الوصول “للسلطة” هو الهدف التي سعى إليه على الدوام وهو ما أدى في خاتمة المطاف للفشل الذريع الذي مُنى به “مشروعه الفكري” حيث عجز عن إستيعاب سُنة التاريخ التي حكمت علاقة “العسكري” صاحب الشوكة “بالسياسي” والتي ظلت نتيجتها النهائية دوماً هى إحتكار الأول للسلطة وإبعاد الثاني عنها.

ظنَّ الترابي أنَّ تميُّزهُ و سيطرتهُ المُطلقة على الحركة التي صنعها وإنفرد بلعب الدور الأكبر في إنتاج الأفكار وإبتداع الأساليب التنظيمية المتقدمة فيها ستمكنهُ من الإنقلاب على الحُكم الديموقراطي ومن ثم إعادته “متى ما شاء” بعد أن يُطبِّق مشروع “التمكين” الحزبي، وهُنا كمُنت أبرز نقاط الضعف في قدرات الرجل الفكرية وثقافته ومعرفته بتجارب الحكم في التاريخ.

فالسُّلطة بطبيعتها تُولدُ منظوماتٍ مختلفةٍ من المصالح المتشابكة والطموحات المستحدثة وتؤدي لبروز مراكز قوى جديدة لم تكن معروفة في المرحلة السابقة، هذه المراكز لا تُحرِّكُها الأفكار والمبادىء والحوافز التي ستُبذلُ في “الدار الآخرة” بل هى تسيرُ وفقاً لحاجات البشر وغرائزهم النازعة دوماً للسيطرة والتحكم وتحقيق الذات خصوصاً بعد تجريبها لمذاق السلطة ولذلك كان أول من إنقلب على الترابي هُم أقرب تلاميذه الذين علمَّهم الرماية فلما إشتدت منهم السواعد صوَّبوا رماحهم وسهامهم نحوهُ دون أدنى تردد.

قال الترابي أنَّ الخطة المُتفق عليها كانت تقضي بإستلام الحكم عن طريق “الإنقلاب العسكري” ومن ثم إعادته مرَّة أخرى “للشعب” بعد أن يستتبَّ الأمرُ للإسلاميين في الحكم وهذا المنطق فوق ما ينطوي عليه من “إقصاء” و “إستعلاء” مكشوف فإنه أيضاً ينمُّ عن سذاجةٍ مثيرةٍ للشفقة و جهلٍ مُطبقٍ بسنن التاريخ وطبائع البشر ومُحركات السلطة وهو ما يُشكك كثيراً في الهالة الضخمة التي تُحيط بالقدرات الفكرية المزعومة للرَّجل.

لم يكتف القرضاوي بالمراوغة في تسمية الأشياء بأسمائها بل مضى أبعد من ذلك ليوضح دور الترابي في الإنقلاب ويقول : ( وقد التف الشباب المسلم في السودان حول الترابي، واختاروه قائداً للحركة الإسلامية في عموم السودان وعندما قامت الثورة التي هيأ لها الأسباب وقادها بحكمة وانتصرت أبى إلا أن يدخل السجن ويجعل القائد عمر البشير ويأمره أن يدخله السجن، ويدير الأمر من داخل محبسه بالأوراق).

لا يُساورني أدنى شكٌ في أنَّ الترابي إذا قرأ الفقرة أعلاه كان سيُصابُ بالإمتعاض والحسرة والندم، فهى من قبيل المدح بما يشبه الذم، ذلك لأنَّها مسَّت أكثر الأوتار حساسية في مسيرة الرجل السياسية، وهى الوصمة التي حاول طوال السنوات التي أعقبت مفاصلته مع تلاميذه أن “يستغفر الله” ويسألهُ العفو عنها، وحتى أتباعه فقد سعوا أن يلتمسوا له العذر في الممارسات المُشينة التي صاحبت تلك الفترة وقالوا أنهُ كان مُغيَّباً عنها أثناء وجوده في السجن بينما القرضاوي “يتهمه” دون أدنى وعي بإدارة الأمر من داخل محبسه، فتأمل !

القرضاوي إذن يعمدُ مرَّة أخرى لتزييف الحقائق فيُسمي “الإنقلاب العسكري” بجرأة شديدة “ثورة”، ويؤكُدُ أنَّ الترابي هو من “هيأ الأسباب” وقاد الإنقلاب “بحكمة”، ومع ذلك يجزمُ بأنَّ الرَّجل كان من دُعاة “الحرية” حيث يقول في فقرة تالية من الرثاء أنَّ مرتكزات منهج الترابي تقوم على أنَّ ( حرية الشعوب جزء من الفرائض الإسلامية، التي نجاهد في سبيلها ) وأنَّ ( حرية التعبير والفكر والمقاومة للظلم فرائض أساسية ) !

غير أنَّ الواقع لا يُكذِّبُ إدعاء القرضاوي بأنَّ الترابي صاحب منهج يُعلي من شأن قيمة الحرية ويعتبرُ أنَّ حُرية التعبير والفكر “فرائض أساسية” فحسب بل كذلك يفضحهُ فيما يرتبطُ بآراء الأخير واجتهاداته الدينية.

يعلمُ الجميع أنّ الترابي ظلَّ لسنوات طويلة يقول أنَّ الإسلام لا يفرضُ أية عقوبة على “المرتد” لأنَّ الأصل في أمر العقيدة هو حُرية الإختيار، ولكنه عندما أُتيحت لهُ فرصة تطبيق أفكاره وإنزالها لأرض الواقع أبَّان فترة تحكمه المطلق في شؤون البلاد سمح بتمرير القانون الجنائي لسنة 1991 الذي تضمَّن المادة (126) التي تحاكم المرتد بالإعدام !

إذن نحنُ هنا بإزاء رجلٍ مُشوَّش، مُضطرب الفكر، يقولُ الشىءَ ويفعلُ نقيضهُ، ويُبرِّر لذلك بالقول أنَّ السياسة كلها “تدابير” أي تحايلٌ وخداع، وهذه ليست من صفات المفكرين الكبار الذين “يستقيمون” على نهجهم في كل الظروف ويُفرِّقون بين “المواقف السياسية” التي تحتملُ التغيير والتبديل و”المبادىء” التي تظلُّ ثابتة في جميع الأحوال.

لا أحد يستطيعُ أن يُصادر حق القرضاوي في رثاء المرحوم الترابي بالطريقة التي يراها، ولكن ليس من حقه أن يُغالط في حقائق الواقع و يخلط الأمور ويُسمي الأشياء بغير أسمائها، فهو بذلك يلجُ باباً محظوراُ في مقام الفكر والمبادىء.

Leave a Reply

Your email address will not be published.