Tuesday , 19 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

يأكُلون مال النبي

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

إنشغل الرأي العام قبل فترة بملف الفساد والتجاوزات المالية الضخمة بوزارة الإرشاد والأوقاف الذي أتهم فيه الوزير الأسبق أزهري التجاني، وأمين عام أوقاف الداخل الطيب مختار، والأمين العام للأوقاف بالخارج خالد سليمان، ولكن المحكمة أصدرت قرارها بتبرئة المتهمين الثلاثة لعدم وجود بينة مبدئية.

قد كشفت المعلومات المُفصَّلة التي أدلى بها حينها “المراجع العام” في المحكمة عن ثغراتٍ عديدة في قوانين “التعاقد” و”الصرف المالي” سمحت بتبديد أموال الأوقاف من قبل الأشخاص القائمين على أمر إدارتها.

وهاهي قضية الأوقاف تطفو على السطح مرَّة أخرى بعد التصريحات “الخطيرة” التي أدلى بها الوزير، عمار ميرغني، عقب عودته من السعودية الأسبوع الماضي، والتي قال فيها أنَّ ( وزارة العدل السعودية وجهت السلطات القضائية في المملكة بمباشرة إجراءاتها القانونية تجاه عدد من الأشخاص الذين استولوا على اوقاف سودانية بالسعودية ).

وكذلك وصف الوزير عمار ميرغني ملف الأوقاف السودانية التي تم الإستيلاء عليها (سرقتها) في السعودية “بالمُعقَّد” وقال أنَّ ( وزير العدل السعودي وجه القضاء في بلاده بحسم الملف قريباً).
كلما أطلت قضية “فساد” جديدة مُرتبطة بوزارة “الإرشاد والأوقاف” تداعى إلى ذهني سؤالٌ بسيط : لماذا لم نسمع طوال تاريخ “الحُكم الوطني” بشُبهة فساد تتعلق بتلك الوزارة “الدينية” بينما أموالها تُنهب وأوقافها تُبدَّد في ظل “الحكم الإسلامي” الذي جاء أساساً ، كما يدَّعي أصحابه ، لترسيخ وتعزيز “القيم” الدينية ؟

إنَّ الإجابة على السؤال أعلاهُ في رأيي الخاص تتعلق في المقام الأول بطبيعة “السلطة” وليس طبائع “البشر”، فالبشرُ هم البشر في كل زمانٍ ومكان، فيهم الصالح والطالح، منهم الذين يعتنقون أدياناً وفيهم من ليس له دين، ولكن نوع السُّلطة هو الذي يُحدِّد درجة الفساد، و في إطار الحكم “الإستبدادي” لن تُجدي “الشعارات” مهما كانت برَّاقة ومنسوبة “للدين” في تحجيم ذلك الفساد أو التخلص منه.

وعندما تكون شرعية السُّلطة مُستمدَّة من “الشعارات الدينية” فإنها تمنحُ أصحابها “صلاحيات مطلقة” بلغت في إطار الديانة المسيحية مبلغاً جعل “الكنيسة” تتكسَّب من “الدين” عن طريق بيع “صكوك الغفران” التي يمنحها بشرٌ لبشرٍ آخرين مثلهم حتى تضمن لهم مقاعدهم في “الجنة”، وتلك درجةٌ من “الفساد” عظيمة.

إذن فإنَّ مُجرَّد الحديث عن “قيم الدين” لا يكفي لمنع الفساد، بل يتم منعه عبر “تحجيم” السلطة ووضع أسس لتداولها، وكبح جماحها عبر سلطتي “الرقابة” و “القضاء”، مضافاُ إليهما الإعلام والرأي العام، وهو ما نجحت فيه “الديموقراطية” بنسبة لا تقارن مع أية نظام حكم آخر.

قد يقولُ قائلٌ أنَّ قيم الدين وحدها تكفي لتحجيم الفساد، ويضربُ البعضُ أمثلة من التاريخ الإسلامي لإثبات ذلك الإدعاء، منها أنَّ سيدنا عمر بن الخطاب (رض) إندهش حين جاءه رسل جيوشه بكنوز كسرى بعدما فتحوا بلاد فارس ودخلوا المدائن، حتى قال حين نظر الكنز بين يديه : إنَّ قوماً أدوا هذا لذوو أمانة.

لقد سأل الفاروق نفسه لماذا لم يطمع واحدٌ من حملة تلك الكنوز في شىءٍ منها طوال الطريق من بلاد فارس وحتى المدينة المنورة ؟ حتى قال له سيدنا على بن أبي طالب (رض) قولتهُ التي سارت بها الركبان :عففتَ فعفَّت الرعية يا أمير المؤمنين.

هذا المثالُ يشيرُ لموضوع “القدوة” التي تحدَّث عنها الإمام على كرَّم الله وجهه، وكذلك يعكسُ تشبُع الصحابة بقيم السماء وروح الدين وتعاليمه، ولكنَّ هناك موضوعاً آخر في غاية الأهمية لا بدَّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص ويتمثل في طريقة إختيار عمر (رض) لقواد جيوشه وولاته و كبار المسؤولين في دولته.

كان عمر (رض)، بالإضافة للقدوة التي حرص على تجسيدها في شخصه وأفراد أسرته وكذلك إلتزام الصحابة بقيم الدين الحقيقية، يُطبِّق معايير دقيقة في إختيار “الولاة” ويُراقبهم مراقبة لصيقة، ويُرسل لهم عاملهُ القوي “محمد بن مسلمة” ليُراجعهم في كل صغيرةٍ وكبيرة، وكان ذلك كله في إطار ما سمحت به مُعطيات زمانه من طرائق للإختيار والمحاسبة، ولذلك فقد سلِم حكمهُ من آفة “الفساد”.

كان التحقق من شكاوى “الرعيَّة” عندهُ مُقدَّماً على ما سواه، حتى وإن كانت تلك الشكاوى ضد كبار الصحابة أمثال سعد بن أبي وقاص، وكان حساب الولاة عنده غيرُ قابلٍ للمُجاملة، بل كان هو – كما جاء في شرح بن أبي الحديد لنهج البلاغة – “أول من قاسم عُمَّاله على الأمصار وشاطرهم أموالهم”.

فهاهو “محمد بن سلمة” يذهبُ بتوجيهٍ من الفاروق لمحاسبة عمرو بن العاص والي مصر، ويحاول الأخير أن يُقدِّم “هدية” لإبن مسلمة الذي رفض قبولها، فقال له عمرو : لقد أهديتُ إلى رسول الله (ص) فقبل هديتي ، فرد عليه الأخير بالقول : لقد كان رسول الله (ص) يقبل بالوحي ويرفض بالوحي، ولو كانت هديتك هدية أخٍ لأخيه لقبلتها منك، وقيل أنَّ إبن سلمة “قاسمهُ” في كل شيء حتى أنه “أخذ منه نعلاً وترك نعلاً”.

ومع ذلك فإنَّ هذا النموذج “العُمري” لم يتكرَّر طوال التاريخ الإسلامي إلا مرَّة واحدة مع “حفيده” عمر بن عبد العزيز ولمدة لم تتجاوز العامين ونصف العام، ومنذ ذلك الزمان دخلت الخلافة الإسلامية في دوامة “الإستبداد” التي إستمرت حتى سقوط الدولة العثمانية.

لا شك أنَّ مُجرَّد إحتكار السلطة في “نسل” أسرة واحدة تتمسك بالحكم والخلافة لعشرات السنين، يستبطنُ شتى أنواع وضروب الفساد والمحاباة والنفوذ، وكل ذلك كان يتمُّ تحت “شعارات” تطبيق الدين، وفي أوروبا كان “الملوك” المدعومين من الكنيسة “يُتاجرون” بنفس الشعارات بينما يسرقون قوت الفقراء والمساكين.

بالطبع فإنه ليس من العلمية في شىء أنْ نُحاكم “الماضي” بمعايير “الحاضر”، ولكن أهميَّة التاريخ تكمُنُ في الإستفادة من دروسهِ حتى لا تتكرر تلك التجارب، وحتى نستطيع الوصول “للخُلاصات” التي من شأنها أن تمكننا من القطع مع ذلك الإرث التاريخي وتجنب السلبيات التي صاحبت التجارب الماضية.

إذا كانت الكوابح الداخلية مثل “الضمير” و “التقوى” و “الخوف من الله” وحدها تكفي لمنع الإنحراف، إذن لكانت نجحت في وقف تبديد أموال الأوقاف، ذلك لأنَّ القائمين على أمرها يعلمون أنَّ ريع “الوقف” هو “مال الله” الذي يتحتم إستثماره في مختلف وجوه “الخير والبر”، وأنَّه “يُحرَّم” التصرف فيه بعيداً عن الشروط والضوابط الشرعية.

ومع ذلك فإنَّ الأشخاص المعنيين – والذين لا تنقصهم الدراية والمعرفية الشرعية – سمحوا لأنفسهم بإستخدام أشخاصٍ عبر “عقود سرية” لا يعرفُ محتواها أحدٌ سوى الموقعين عليها، وأن يتصرفوا في أموال الأوقاف في الخارج دون “ضوابط قانونية”، وهى أمورٌ كان من المفروض أن يتجنبها الشخص المسؤول حتى وإن كانت النصوص القانونية الموجودة لم تعالجها بالدقة المطلوبة، وذلك حتى يتجنب الوقوع في “شبهة” الفساد من الأساس، وهو ما يؤكدُ حقيقة أنَّ “الكوابح” الداخلية وحدها لا تكفي لمنع الإنحراف.

في بلدٍ مثل السودان يتعذَّرُ فيه على الناس الحصول على “الماء” النظيف الصالح للشرب، و يموتُ فيه الأطفال من سوء التغذية، ويفتكُ السرطان والفشل الكلوي بأراوح الشيوخ والشباب، وتملأ “القمامة” أركان عاصمته “الحضارية”، كان من الأجدر بذلك المسؤول أن يرفض من تلقاء نفسه – لو كان الضمير والتقوى وحدها تصلُح – أن يتقاضى منحةً لعيد الفطر تبلغ 40 مليوناً من الجنيهات، ومثلها في عيد الأضحى !

الشىء المطلوب من وزير الإرشاد والأوقاف هو أن يتعامل بشفافية تامة مع ملف الأوقاف السودانية في السعودية والذي أسماه “بالمعقد”، وأن يُمكِّن “الرأي العام” من الإطلاع على تفاصيل القضية التي لا شك أنها ستجرُّ أطرافاً كثيرة، إذ لا يُعقل أن يستولي مواطنون سعوديون على أوقاف سودانية دون أن يتم ذلك عبر تدخل جهات رسمية، بغض النظر عن الطريقة التي تم بها ذلك التدخل.

كذلك مطلوبٌ من الحكومة الا تتدخل، وأن تترُك القضية تسير بنفس الطريقة التي سارت بها القضية السابقة التي تناولتها أجهزة الإعلام وإستمع لها البرلمان حتى وصلت ساحة القضاء الذي قال فيها كلمتهُ الأخيرة.

إنَّ من مصلحة الجميع أن يتمَّ الكشفُ عن تفاصيل الإنحراف الذي يتسبب في ضياع “المال العام”، خصوصاً إذا كان ذلك المال مرتبطاً بوزارة ذات طابع “ديني” مثل وزارة الاوقاف، حيث يتوجب التعامل فيها بنزاهة وشفافية مُضاعفة ذلك لأنها تُدير أموالاً وأوقافاً تركها أهل الخير للمصلحة العامة، وحرموا منها أبناء وبنات أسرهم حتى يستفيد منها الجمهور المسلم بصفة عامة.

إنَّ من يسمح لنفسهِ بإستباحة أموال الفقراء والمساكين، هو شخصٌ جديرٌ بالفضح والتعرية والمُحاسبة أمام الناس، ولا يجب التستر عليه بأية شكل من الأشكال، ولم تكن “الخدمة العامة” في بلادنا في الماضي مصابة بمثل هذه الأمراض الفتاكة، حتى ظهر “هؤلاء” فجعلونا نتساءل مع “الطيب صالح” من أين جاءوا ؟ ونُردِّدُ مع “عالم عباس” :

وتسألُ، مَنْ هؤلاء، ومِنْ أين جاءوا، سراعاً إليك ؟ لا عليك ! راحِلٌ أنتَ، وهُم راحلون، فماذا عليك ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published.