Friday , 19 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

إنقطاع الذاكرة الوطنية : المدارس نموذجاً

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

ألحَّت علىَّ في الأيام القليلة الماضية ذكرياتُ الدراسة بمختلف المراحل التعليمية الأساسية بوحيٍ من مُشاهدة مدرسة عتيقة المباني بأحد الأحياء القديمة بقاهرة المعز لدين الله الفاطمي.
عادت بي الذاكرة للنصف الثاني من سبعينات القرن الفائت، مدرسة الخرطوم شرق الإبتدائية، أول مدرسة إبتدائية نظامية أنشأها الحكم التركي في عهد “عباس باشا” الذي أرسل “رفاعة رافع الطهطاوي” إلى السودان لينشىء المدرسة ويتولى نظارتها في العام 1851.

كان يقومُ على أمر المدرسة على عهدنا بها أساتذة أجلاء، يقفُ على رأسهم أستاذ “محمد آدم التوم مدني” ذلك المُربي الفذ، أستاذ الرياضيات، و الأستاذ المرحوم “عوض الكريم عيسى مصطفي”، أستاذ التربية الإسلامية، إبن بربر الحكيم، وأستاذ “محمود أحمد محمود” صاحب “عصا العقاب” المشهورة “بأم سعد الله”، والأستاذ “الحاج الجلال” والاستاذ “أمين الطيب الماحي” إبن “عديد البشاقرة”، وبقية العقد الفريد من المعلمين الكرام الذين وقف على رأسهم المرحوم الناظر “كباشي محمد الجزولي” الذي إنتقل إلى رحاب الله هذا العام.

لم تغب عن الذاكرة طوال السنين الماضية صُور الفصول الدراسية، وجدرانها المزيَّنة بالحِكَمْ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وحديقة المدرسة الجميلة المُنظمة، والتي كانت هى المكان الذي وجدت فيه مجموعتنا “الكنز” المخبوء في درس الجغرافيا المشهور بالسنة الثالثة : “خريطة الكنز”، ومسرح المدرسة الذي كانت تملأه الفنانة القديرة “نعمات حمَّاد” نشاطاً وحيوية وهى تدربنا على التمثيل وإلقاء المونولوجات الشعرية.

مُجتمع المدرسة لا يكتملُ إلا بذكر العم “سيف الحلفاوي” صاحب البوفيه، خبير “الزلابية” و “فتة الفول” و”الدُّقة”، وكذلك حبوباتنا الفاضلات اللائي كنَّ يملأن حوش المدرسة بعد نهاية اليوم الدراسي ونتسابق نحن لنبتاع منهنّ الآيسكريم “الداندرمة”، والتسالي والدوم والقضيم والسمسمية والفول وقراصة النبق.

لا زلتُ أذكر ميدان “الكرة الطائرة” الذي يتوسط المدرسة، كان الأساتذة والطلاب يلعبون سوياً مباريات ساخنة، وكانت التنافس غالباً ما يكون بين فريقي أستاذ “محمد آدم” وأستاذ “عوض الكريم”.

كانت المدرسة “بوتقة” حقيقية، إنصهر فيها الطلاب بمُختلف إنتماءاتهم القبلية والطبقية، كان يجلس على “كنبة” الفصل إبن الوزير والموظف والغفير، دون تمييز، وكانوا جميعاً أصحاب خلفيات جهوية وعرقية مختلفة، ولكن جمعتهم المدرسة داخل فصولها ، واحتضنهم أساتذتها الكرام.

خارج أسوار المدرسة كانت تقفُ مكتبة “عبد العال” حيثُ الكراسات والمحابر وأقلام “الترمسة” والجِلاد، وكل المستلزمات المكتبية. كان صاحب المكتبة نفسه مرُبياً فاضلاً صاحب حضور كبير داخل المدرسة وصديقاً لجميع الأساتذة والطلاب.

كذلك كنا نتسابقُ على شراء “فطائر” المحل المشهور “على الطائر” الواقع في الناحية الجنوبية من فندق “أراك هوتيل”، وسندوتشات “النجومى” “المدنكلة” بالقرب منهُ، كما كنا زواراً دائمين للمعارض التي تقام على أرض المعارض “بأبي جنزير”.

ثم إنتقلتُ في عام 1981، لمدرسة “الخرطوم الأميرية المتوسطة”، وهذه كانت مرحلة مُختلفة بمعلميها وطلابها، كان هناك وكيل المدرسة وأستاذ الرياضيات “الشاطر”، “فتحي نورين”، ومعلم اللغة الإنجليزية المُتميز “عمر مرسال”، وناظر المدرسة “الأنيق”، “علي مكي”، وبقية النجوم المتألقة من الأستاذة.

الأميرية إشتهرت بأنهُرِها الأربعة التي كانت تسمى بأسماء الإتجاهات الأربعة ثم تحولت لأسماء “الخلفاء الراشدين”، وبالتنافس الشديد بينها في دوري كرة القدم، وبإذاعتها المدرسية، وسيرتها الأكاديمية الباهرة.

في المدرسة الأميرية بدأنا رحلتنا مع “معمل العلوم” الضخم، ودروس اللغة الإنجليزية وآدابها، حيث “جين إير” و “تريجور آيلاند”، كما كان مشوارنا اليومي بعد نهاية الدراسة لأكل باسطة “الكوباني” العجيبة.

ثم جاءت المحطة الأخيرة في المدراس العامة، الخرطوم القديمة الثانوية العُليا، وهذه قصةٌ لا تكفي لروايتها هذه الأسطر القليلة، المباني الضخمة العتيقة، والمعامل، وملاعب الكرة الطائرة وكرة السلة، وسكن الاساتذة الملحق بالمدرسة، والأساتذة العمالقة المُهابين، يتقدم ركبهم الناظر القدير والمربي الجليل “مصطفى عابدين”.

كان الوكيل “عوض الجيد”، ضابط إيقاع الإنضباط بالمدرسة، والشخص الحاضر في كل ما يخص الطلاب، وكان الأساتذة الأكفاء في كل شعبة، كان “التجاني محمد مختار” معلم الرياضيات الفذ، وأساتذة الفيزياء “ميرغني” و “بدر الدين نور القبلة” و “النوراني الحاج الفاضلابي” أستاذ اللغة العربية المُبدع، وأستاذ الفنون “زكي”، و “محمد الفاتح” أستاذ الجغرافيا، وأستاذ “شريف” معلم التاريخ، وأستاذ “مارتن ماو ماو” مُعلم اللغة الإنجليزية، وغيرهم من الأستاذة الأجلاء الذين لم يتسع المجال لذكرهم.

في الخرطوم القديمة، كانت بداية “الإنتماء السياسي”، وأركان النقاش، والتدريب العسكري “الكاديت”،وفيها أيضاً كانت أقوى شُعبة للمسرح في المدارس الثانوية في ذلك الوقت، كان من بين أعضاءها “صالح عبد القادر” الأستاذ حالياً بكلية الدراما.

هذا القليلُ من الكثير من الذكريات الجميلة، ضاع بالكامل، إنقطعت “ذاكرة” المكان مرَّة وإلى الأبد، حيث أضحت كل هذه المدارس أثراً بعد عين، إختفت الخرطوم شرق وحلَّ محلها “بنك البركة”، وضاعت الخرطوم الأميرية في زحام المحلات التجارية، وتلاشت الخرطوم القديمة، ولم يبق منها سوى شارع أسفلت.
ترتبطُ “الأماكن” بالإنتماء والإلفة، فالمكان يتحوَّل من مُجرَّد موقع جغرافي إلى إنتماء وجداني وعاطفي وهو يُعتبرُ من أهم مكوِّنات الشخصية، إذ يرسخ في ذاكرتنا، ننتمي إليه، ونحافظ عليه، ويصبح جزءاً من تكويننا النفسي والعاطفي.

إنَّ ما يحسِّهُ الإنسان تجاه مكانٍ مُعيَّن مثل الشعور بالفخر و الانتماء و الإرتباط وكل هذه الصفات الإيجابية والمعاني العميقة، يُرِّسخُ وجود ذلك المكان في نفسيته وذاكرته ، حتى إذا ما تمَّ ربط ذلك المكان “الجغرافيا” بالزمان “التاريخ” وبالمحتوى “قيمة المكان” برزت الأهمية “التراثية” للمكان وما يعكسه من غنىً حضاري.

وبمرور الزمن تتحوَّل هذه الأماكن إلى “موروث حضاريٍ” يُمثل فخـراً للوطن، فهى بما تحمله من قيمٍ ومعانٍ تُعتبرُ دليلاً علـى “العراقة والأصالة” و مُعبِّـراً عـن “الهوية الوطنية”، حيـث تتصِّل بشخصية الأمة وتُعطيها طابعها المُميَّز.

وكذلك فإنَّ هذا الموروث يكون بمثابة “الذاكرة الحية” للفرد والمجتمع ، هو السبيل للتعرُّف على الأفراد وعلى المُجتمعات، هو إمتداد السـلف فـي الخلف واستمرار ما ورثهُ الأبناء والأحفاد عن الآباء، هو الأساس الذي تقوم عليه الصلة بـين ماضي البلد وحاضرها، وهو صاحب الأثر الكبير في صياغة مُستقبلها.

إنَّ إتخاذ القرارات “السياسية و الإدارية” بإزالة مدرسة عريقة أو مبنى قديم – ومهما كانت الحُجَّة وراء تلك القرارات- يعكسُ عدم إدراك مُتخذِّيها للمعاني المُهمِّة التي تنطوي عليها تلك “الأماكن”، وهى في جزءٍ منها تعكسُ جهلاً بأهمية “التراكم” الضروري والمطلوب في عملية “النهوض الشامل” و الذي أصبح أحد أهم أسباب أزماتنا العميقة والمتزايدة.

ما هو المُبرِّر الذي يجعل “السياسي” أو “الإداري” يتخِّذ قراراً بإزالة أول مدرسة نظامية حديثة أُنشئت في البلد بجرَّة قلم ؟ يقولون ضرورات التطوُّر ومواكبة العصر ! ولكن ألم يكن مُمكناً إقامة مباني البنك الذي حلَّ محل المدرسة في أية منطقة أخرى ؟ بالطبع كان ذلك متاحاً ولكنه “قصر النظر” والتفكير اللحظي الذي لا يأبه بكل ما أتينا على ذكره من الأهمية التاريخية للمكان.

ثمَّ أنَّ مثل هذه القرارات “العشوائية” – وفي أغلب الأحيان – لا تخرجُ من إطار السعي وراء تحقيق “المصالح” الشخصية الضيقة لأفراد أو مجموعات يرتبطون “بالسلطة”، ولا يمثلُ “الوطن” ومستقبل الأجيال القادمة بالنسبة لهم شيئاً يذكر، وهنا تكمن المأساة الحقيقية.

بالأمس القريب فجَّر الإقتصادي المعروف الدكتور عصام عبد الوهاب (بوب) قنبلة مُدويَّة عندما كشف أنَّ قيمة الأراضي المرهونة “بولاية الخرطوم” لرجال أعمال وبنوك تبلغ 900 مليار جنيه سوداني، واعتبرها جريمة و “بدعة غير متعارف عليها في الدول الأخرى لأنها غير جائزة أصلاً”، وتساءل عن ” كيفية قيام جهة من الجهات مهما أوتيت من صلاحيات ببيع أموال لا تملكها وهي ملك للأمة السودانية ؟”.

الجهات التي تساءل عنها الدكتور عصام بوب، لا يعنيها من أمر “الوطن” إلا ما اتصَّل منه “بالمغانم” التي ينتظرونها ويعرفون أوان ومكامن تصُّيدها، ولذا فليس من العسير أن “يبيعوا” ويرهنوا كل شىء بما في ذلك “إنسان” السودان نفسه.

إنَّ ما جئتُ على ذكرهِ في هذا المقال ليس سوى نقطةٍ في بحر “إنقطاع الذاكرة الوطنية”، وغياب التراكم التاريخي اللازم لإحداث النهضة ، فكم من “الآثار الحضارية” قد تمت سرقتها و نهبها أو أتلفها الإهمال ؟ وكم من “المؤسسات القومية” قد ضاعت في سبيل تحقيق طموحات غير مشروعة لأفرادٍ زائلين ؟

رحم الله أساتذتنا الكرام الأجلاء الذين رحلوا عن الدنيا الفانية، وأمدَّ في أيام الأحياء منهم الذين ما زالوا يواصلون مسيرة العطاء في إنارة العقول والقلوب والبصائر.

ملحوظة أخيرة : وانا أتهيأ لتسليم المقال للصحيفة وصلني نبأ آخر حزين : تم هدم “مدرسة الخرطوم الأميرية بنات” بعد بيعها لمستثمر خليجي !

Leave a Reply

Your email address will not be published.