Friday , 29 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مذكرة الاسلاميين المنادية بقيام دولة مدنية في السودان

معالم في طريق الإصلاح والنهضة

ورقة إطارية (رقم 1)

30 نوفمبر2011

مقدمة:

لقد أمضينا، نحن الموقعين أدناه، عقودا طويلة من العمل في الحركة الإسلامية في السودان، سواء كان ذلك في المجال التنظيمي الخاص، أو في المجالات السياسية والفكرية والأكاديمية العامة. وكانت آمالنا معقودة، وجهودنا منصبة، على المساهمة مع إخواننا الآخرين في تأسيس وتطوير حركة للتغيير الاجتماعي والإصلاح السياسي الوطني، تقوم على رؤية إسلامية متكاملة؛ حركة يتم من خلالها تنظيم وتكتيل القوى الوطنية الفاعلة، لتتولد منها أطر قيادية جديدة، متحررة من العصبيات العرقية الضيقة، تجمع بلا شطط بين الالتزام الديني المستنير، والحس الأخلاقي والوطني المرهف، والتمكن العلمي والتقني، مع الانفتاح على التجارب الإنسانية الناجحة، والانتفاع بها، فتخط مناهج، وتصوغ برامج، وتقدم نماذج، لتدفع بالمجتمع السوداني خطوات في اتجاه النهضة.

بيد أنه قد تأكد لنا، من خلال التجربة الطويلة والنظر المتأني، أن جهودنا تلك قد بُعثرت، وأن حركتنا تلك قد حُوّلت من مسارها، ووُظفت في غير ما قصدنا. كما تأكد لنا من ناحية أخرى أن عددا من إخواننا وطلابنا ممن كانوا معنا على دروب الدعوة والكفاح لا يزالون يمسكون بجمر القضية، وينظرون إلينا بعتب شديد، ويلحون علينا في ألم، ألا نكتفي بالكتابة في الصحف والسفينة تغرق، وألا نقف مكتوفي الأيدي وأجزاء من الوطن تتفسخ، وأجزاء منه تحترق. فصار لزاما علينا أن نقترح عليهم فيما يلي “ورقة إطارية” تتضمن “معالم في طريق الإصلاح والنهضة”، وأن ندعوهم لإبداء الرأي حولها، واعتمادها إطارا عاما لإعادة تأسيس الحركة الإسلامية، وألا يظلوا هم أيضا واقفين على الرصيف حينما تدق ساعة العمل.

هذا، وقد يكون من نافلة القول أن نذكّر بأن الحركة الإسلامية التي نقصدها لم تكن نتاجا لعبقرية شخص، أو دعم حكومة، أو مساندة قبيلة، وإنما نشأت وترعرعت بجهد مجموعات كبيرة من خيرة أبناء الوطن الأتقياء الأخفياء، والذين عملوا جيلا من بعد جيل على إثرائها فكريا، ودعمها أدبيا وماديا، والدفاع عنها بكل غال ونفيس، حتى نضج عودها، وتمكنت بفضل من الله أن تشق طريقها، وسط كم هائل من التحديات، تجهر بالدعوة حينا، وتسرّ بها حينا آخر، وتصعد حينا وتهبط حينا، تتغير أسماؤها وتتنوع أشكالها، ولكن هدفها ظل ثابتا: أن تجدد مناهج الفكر، وأن تنشر وتعمّق الوعي الإسلامي، وأن تعزز قدرات المجتمع من خلال العمل السلمي المتدرج وصولا إلى نظام سياسي رشيد تراعى فيه قيم الإسلام ونظمه، ومصالح الوطن القريبة والبعيدة. وقد استطاعت بالفعل أن تحقق انجازات كثيرة على الصعيد الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي، وأن تنأى عن نماذج الحركات الإسلامية المتطرفة، والدعوات الجهوية المسلحة، التي عادة ما يتحول نضالها إلى حروب داخلية يقتل فيها الأخ أخاه، ويدمر فيها كل فريق ما بناه الآخر، في سلسلة من المواجهات الدموية البشعة التي لا يقرها شرع ولا عقل(كما رأينا ونرى في مواقع عديدة من بلاد المسلمين).

ولكن، وما أن صارت الحركة الإسلامية قاب قوسين أو أدنى من الحصول على التفويض الشعبي، إلا وقد تورطت قيادتها في لعبة الانقلابات والانقلابات المضادة، وصار الاستيلاء على السلطة هدفاً استراتيجيا يضحى من أجله بالقيم الأخرى، وتسفك في سبيله الدماء. وكانت نتيجة ذلك انقلاب يونيو من عام 1989، وما لحقه من حل لمجلس شورى الحركة الإسلامية، وتغييب متعمد للسواد الأعظم من عضويتها، مع إدراج عناصر منها في أجهزة الدولة، حيث انخرطا معا في حروب متطاولة ضد الحركات المتمردة في جنوب البلاد وشرقها وغربها، كما استدرجا في مناوشات مضنية ضد القوى الدولية الكبرى؛ وترتب على تلك الحروب الداخلية والمناوشات الخارجية أن جرّت الحركة الإسلامية، وجرّ معها السودان كله، إلى حروب باهظة التكلفة، لم تسبر غاياتها، ولم يحسن التخطيط لمساراتها، ولم تدبّر سبل الخروج منها، فاستثيرت ضدهما قوى الاستكبار العالمي وحلفاؤها من دول الجوار، وصار الكل، تحت شعار محاربة الإرهاب، يجلب على السودان بآلياته الإعلامية والدبلوماسية، وبمؤسساته الاقتصادية والتقنية، حتى وضع في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وضربت عليه صنوف من الحصار، فتحول المشروع الإسلامي برمته، تحت وطأة الحصار والحرب، من مشروع ثقافي/فكرى مفتوح يتدرج نحو المسار الديمقراطي، إلى مشروع عسكري/أمنى منغلق على نفسه، يضيق بالديمقراطية في داخله، ويُضيّق مسالكها في الخارج. فتضاءلت ساحات النشاط الإسلامي السلمي المستنير على ضيقها، والتحقت القوى الوطنية المعارضة للنظام بقوى التمرد الجنوبي، واستطالت دعوات التطرف الديني والانتماء القبلي، وتعالت صيحات الحرب.

ثم وقع الخلاف المشهور في كيفية قيادة الدولة ومن يقودها، وانشطرت النواة القيادية بسبب ذلك إلى ثلاثة فرق: فريق استأثر بالدولة واحتمي بها، وصار يضرب بيد من حديد كل من ينازعه فيها، وفريق ثان ظل يكدح بالليل والنهار لاستعادة الدولة التي نزعت من بين يديه، وفريق ثالث وقف على الرصيف، لم يرد أن يشارك في عمليات التدمير الذاتي المتبادل بين الفريقين المتناحرين، ولكنه لم يستطع أن يصلح بينهما، كما لم يستطع تجاوزهما. وصار الصراع بين الفريقين الأولين يتعمق ويتفاقم، وينتقل من صعيد إلى آخر، حتى فقد كل منهما الرؤية، فصار يتودد إلي أعداء الأمس، ويبحث عن النصرة بينهم. وأبرمت في هذا السياق “اتفاقية نيفاشا” من عام 2005، والتي مهّدت الطريق لانفصال جنوب السودان عن شماله، وأُشعلت في هذا السياق ذاته حرب دار فور، وما لحق بها من تقتيل وتشريد وعذاب، أدخلت البلاد بسببه في مزيد من التعقيدات المحلية والدولية. وطبيعي أن تكون المحصلة النهائية لكل هذا خسرانا مبينا، وعلى أكثر من صعيد؛ فلا بقى الوطن متحدا كما كان، ولا توقفت الحرب في الأجزاء المتبقية منه، ولا خفت الضائقة الاقتصادية، ولا تراخت الضغوط الدولية، ولا امتلك الحزب الحاكم الشجاعة الكافية التي تجعله يراجع المسيرة، أو يقبل النصيحة، أو يصدق مع النفس ويستقيم في القول والعمل.

أين الحركة الإسلامية؟

وفى خضم هذا النزاعات العبثية المشينة، وفى مرحلة التخبط والتيه هذه، لم يعد هناك من يعلم شيئا عن الحركة الإسلامية سوى أنه قد تم اختطافها واعتقالها في دهاليز النظام الحاكم، فصارت موجودة وغير موجودة؛ موجودة حينما يحتاج النظام في بعض الأحيان إلى “وقود” لمعاركه العسكرية والانتخابية التي يخوضها على غير هدى أو كتاب منير، وهى غير موجودة حينما يحتاج في أحيان أخرى أن يدخل في مساومات وتحالفات محلية مع القبائل أو الأحزاب، أو حينما يقرر أن يتقرّب من الحركات الدينية السلفية والمتطرفة ليتخذها قاعدة شعبية بديلة، أو حينما يضطر لتقديم تنازلات هامة تحت الضغوط الإقليمية والعالمية.

وقد تنبهنا ونبهنا إلى خطورة وضرر هذا السلوك المراوغ منذ زمن طويل، وقلنا بطرق شتى إن الحركة الإسلامية ليست ملكية خاصة لزعيم أو شلة من السياسيين، فيتبادلونها تبادل المتاع، كما أنها ليست هيكلا فارغا أو علامة تجارية يمكن إلحاقها بهذا الجهاز أو بتلك المؤسسة، وإنما هي “منظومة مبادئ أخلاقية” مرجعية، تبرم في ضوئها برامجنا الاقتصادية وعلاقاتنا السياسية، ويتحدد في إطارها سلوكنا الاجتماعي والسياسي. فإذا وقعت المفارقة بين هذه المرجعية والحزب الحاكم، كما هو ملاحظ، فلا مناص من أن تخرج الحركة الإسلامية من عباءة الحكومة وحزبها الحاكم، وتعود الى موقعها الطبيعي بين الجماهير.

على أن مجرد خروج الحركة الإسلامية من براثن النظام لن يكون، على صعوبته، كافيا. فالحركة الإسلامية تحتاج، من بعد الخروج، إلى إعادة تأسيس؛ إعادة تأسيس للرؤية والمنهج والتنظيم، وإعادة نظر في البرنامج والقيادة. وما ذلك إلا لأن المياه الكثيرة التي جرت في النهر، والتحولات الكبرى التي وقعت في البيئة الداخلية والإقليمية والدولية، لا ينفع معها الترقيع ولا يناسبها التقليد. فنحن نشهد من بين أيدينا ومن حولنا زلازل وأهوال، فنرى دولاً تهوي ومجتمعات تمزق وتخلع من جذورها، ونرى أعداء يتحولون إلى أصدقاء، ومعارضين يتحولون إلى حكام، ونرى شبابا يحتشدون في الميادين والطرقات، يهتفون بالكرامة والحرية، فتتجاوب معهم الملايين، ويتساقط تحت أقدامهم حكام جبابرة، يهرب بعضهم، ويوضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية ويقدمون للعدالة. نرى كيف أن تقانة المعلومات والاتصال قد جعلت مؤسسات الحظر والرقابة عديمة الجدوى، وكيف أن أشكال التعبئة السياسية والتنظيم والتواصل قد صارت أكثر كفاءة، وكيف أن العالم كله قد صار شفافا مرئيا ومسموعا، وأن سكانه جميعا قد صاروا شهداء على ما يقوم فيه وما يقع.

وبديهي أن فهم هذه التحولات الكبيرة لا يتأتى إلا من خلال رؤية مكينة نافذة، وما لم تتوفر مثل هذه الرؤية فلن نستطيع في هذا الكم الهائل من الضباب أن نعرف أنفسنا، أو نرى العالم من حولنا، ولن نستطيع أن نحدد “مواقعنا” في خريطته، ولن نستطيع أن نميز في القوى الاجتماعية المتصارعة المتناقضات الأساسية والثانوية، ولن نستطيع معرفة العدو الاستراتيجي وميادين المعارك معه، ولن نستطيع أن نضبط اتجاه مسارنا أو نحدد مراحل تقدمنا.

وبناء على هذا فنحن:

ننادى (من خلال هذه الوثيقة) بإخراج الحركة الإسلامية وإحيائها لتتوفر البيئة اللازمة للمراجعة الأمينة والنقاش الحر اللذين يمهدان الطريق لإعادة التأسيس واستكمال البناء، بعيدا عن الدولة ومؤسساتها وحزبها الحاكم.
على أن ما ينبغي تأكيده هو أن هدفنا ليس أن نعمل على رأب الصدع بين الفريقين المتناحرين (المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني)، أو أن نسعى للتوحيد بينهما؛ فذلك شأن قد بذلت فيه مساع كثيرة وباءت جميعها بالفشل، وهو على أية حال شأن يخصهما وحدهما؛ وليس من أهدافنا أن نعمل على استعادة هياكل ونظم ومؤسسات وأموال” الحركة الإسلامية، فتلك “تركة” قد تمت تصفيتها وتوزيعها بين المؤتمرين (الشعبي والوطني)، وتلك حقبة قد تم تجاوزها؛ وليس من أهدافنا أن نعمل على ترميم النظام الحالي، أو محاولة إصلاحه، إذ أن النظام الحالي ظل يرفض، بل ويئد، كل مقترحات الإصلاح حتى وصل مرحلة لا يمكن فيها نصحه وإصلاحه؛ وليس هدفنا بكل تأكيد أن “نتآمر” مع جهة عسكرية في الداخل أو الخارج للإطاحة بالنظام، فإنه لم يضر بحركتنا الإسلامية وبوطننا سوى المغامرات العسكرية الطائشة، والتدخلات الخارجية الماكرة؛ وليس هدفنا أخيرا أن نحاكى موجات “الربيع العربي”، بأن نفتعل الأزمات، أو نختلق المشكلات، ولكن ذلك لا يعنى أن نتعامى عما يجرى في محيطنا العربي، أو أن ندعى أن البطالة والاستبداد والفساد اللائي صنعت منها الثورات العربية لا يوجد مثيلها لدينا، أو ننكر أن مكاننا التلقائي ليس إلى جانب المظلومين والمحرومين.

ولكن هدفنا أولا:

أن نبين للصالحين العاقلين من إخواننا أن مسايرة النظام الحالي، وتعليق مزيد من الآمال عليه، واعتباره أمينا على المشروع الإسلامي، أو داعما له، هو ضرب من مخادعة النفس، والتهرب من مواجهة الواقع؛ فالنظام لا يحسن الاستماع ولا يقبل المراجعة، ولا يتعامل مع الناصحين والمعارضين إلا كحالة “نفسية” يجب علاجها، أو كحالة “أمنية” يجب التصدي لها، وهو لا يعمل إلا على جمع الثروة والسلطة، والمحافظة عليها بشتى الطرق، وتركيز الاختصاصات كلها في رأس الدولة، والمطابقة بينه وبين الوطن، وحشد المؤيدين له، ورفض أي إصلاح حقيقي يمس قيادة النظام أو شبكات الفساد؛

وهدفنا ثانيا:

أن نعمل، من بعد فك الاشتباك بين النظام الحاكم والحركة الإسلامية، على السير في اتجاه التطور الديمقراطي السلمي، في إطار مشروع وطني رشيد، يرفض الاستبداد والطغيان، وينأى عن العصبيات القبلية والجهوية، ويرفض التعايش مع الفساد في كافة صوره، ويتمسك بالحرية والعدل كمبادئ أخلاقية مطلقة لا تقبل المساومة، مع التأكيد بالتزامنا القاطع بالنظام الديمقراطي ( في داخل الحركة وخارجها)، بلا مواربة أو تحفظ، حيث تستمد المشروعية من الشعب، عبر الانتخاب الحر النزيه، وحيث تتجسد السيادة في دولة مدنية مسئولة، تكفل فيها الحقوق والحريات الأساسية، ويتساوى الناس فيها أمام القانون بلا تمييز جنسي أو عرقي أو ديني.

وهدفنا ثالثا:

أن نفتح قنوات للعمل الوطني المشترك، مع إعادة تأكيد قناعتنا الراسخة بأن الوطن يجب أن يكون فوق الأحزاب والتنظيمات، فلا ينبغي لجماعة أن تحتكره سياسيا، أو أن تنقطع عنه جهويا، وأن القضايا الوطنية لا مكان فيها للاستعلاء على الآخر ومحاولة إقصائه والهيمنة عليه.

وهدفنا رابعا:

أن نعمل مع الآخرين على إطفاء نيران الحرب حيثما وجدت، وأن ندفع بكل قوة في اتجاه السلام والتنمية، وأن نسعى في اتجاه استئصال الفساد، بتجفيف منابعه، وتضيق الطرق المؤدية إليه، وأن نعلى من قيم العدل والشفافية في العمليات السياسية والمعاملات الاقتصادية، وأن نعمل على توطينها في المؤسسات التربوية والعدلية.

وفى الختام:

نأمل أن تصل هذه الورقة الإطارية إلى كل إخواننا العاملين في الحركة الإسلامية، الصادقين العاقلين، أيا كانت مواقفهم السابقة ومواقعهم الحالية، وأن تقع منهم موقعا حسنا، وأن يوقعوا عليها، لكي نغادر معا محطة الأحزان، ونبدأ دورة أخرى من دورات الكفاح، مع يقين ثابت بأن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين.

توقيع:

Leave a Reply

Your email address will not be published.