Friday , 19 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

من مصنع الشفاء الى اليرموك .. توجهات (الانقاذ) ما بين ضربتين !!

بقلم علاء الدين بشير

27 يناير 2013 – في أغسطس 1998 ضربت الولايات المتحدة مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم المملوك لرجل الأعمال السوداني، صلاح إدريس بذريعة صلته بأنشطة إرهابيه وانتاجه مركّبات تدخل في صناعة اسلحة كيماوية. ورغم أن تقارير امريكية شبه رسمية اشارت الى ان المصنع قصف خطأ وبناءً على معلومات استخبارية غير صحيحة مستقاة من دوائر سودانية معارضة للنظام الاسلامي الحاكم في الخرطوم والمتهم غربيا برعاية الارهاب وتحديدا ما ذكره السفير الامريكى الاسبق بالخرطوم تيموثي كارني، ورجل الاعمال الامريكى المسلم من اصل باكستانى منصور اعجاز، ضمن مقال لهما بصحيفة (الواشنطن بوست 3 يونيو 2002) ، الا ان السياسى المعارض، مبارك الفاضل المهدي كشف في سياق المناظرات لانتخابات العام 2010 الرئاسية التى ترشح فيها وفي برنامج (مجهر سونا) ان المعلومات التي استند عليها الامريكيون فى قصفهم للمصنع وفرها مديره المنتمي لتوجه الاسلاميين الحاكم عقب صحوة ضمير انتابته من الاحتمالات السوداوية لاستخدام تلك الاسلحة في الحروب الاهلية السودانية وما يمكن ان تجره من كوارث ضد المدنيين من ابناء الهامش السودانى، و ان ذلك المدير طلب اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة. و لم تنف اية جهة او مسؤول حكومي معلومات مبارك المهدى تلك في حينها.

قصف المصنع من قبل الولايات المتحدة كان اقوى انذار للنخبة الاسلامية الحاكمة التي ظلت متماسكة في وجه كافة الضغوط التي مورست ضدها لتعديل سياساتها التي ترى الدول الكبرى ودول الاقليم انها تمثل تهديدا فوق العادة لاستقرارها ومصالحها وانها غير منسجمة مع اتجاه السلم العالمي، وكانت الانذارات السابقة وصلت حد فتح ثلاث جبهات عسكرية في وقت واحد، و لكن كان القصف من امريكا مباشرة هذه المرة و في العمق ما جعل النظام الحاكم يفيق على حقائق القوة المادية فى العالم التي كان يتغافل عنها في غمرة سكرته الايدولوجية الامر الذي ادى – الى جانب تفاعلات كثيرة كانت تعتمل في احشائه – الى تسريع وتيرة الخلاف والصراع الداخلي قادت في ديسمبر من ذات العام 1998 الى بروز مذكرة العشرة الشهيرة داخل تنظيم الاسلاميين الحاكم و التي ارهصت لبداية المفاصلة داخل النظام بعد ان دعت الى تقليص صلاحيات الامين العام للحزب الحاكم وهو عراب النظام والاب الروحي للاسلاميين، حسن الترابي وتبعها ما عرف بقرارات الرابع من رمضان (ديسمبر 1999) التي قضت بحل المجلس الوطني الانتقالي الذي كان يترأسه الترابى نفسه واعلان حالة الطوارئ ثم تلتها ما عرف ايضا بقرارات صفر 2000 و التي انتهت بالاسلاميين الحاكمين الى فسطاطين احدهما في الحكم برئاسة البشير والآخر بقيادة الترابي ذهب إلى صفوف المعارضة.

و رغم ان اسباب مذكرة العشرة والمفاصلة عموما تشي بأنها مسألة داخلية الا ان مؤشرات قوية تشير الى أن البعد الخارجى فيها كان مؤثرا بصورة كبيرة ان لم يكن هو العامل الحاسم فيها، فقد كنت اجريت حوارا مع السياسي المخضرم وسفير السودان الاسبق في واشنطن، والاسلامي أخيراً، المرحوم احمد سليمان المحامي في اكتوبر 2003 بصحيفة (الصحافة) وسألته عن الكيفية التي نجحت بها مذكرة العشرة فأجابني بانفعال: (عملوها الامريكان) لكن مقتضيات ظروف الرقابة على الصحافة وقتها جعلت ادارة التحرير تعدلها الى (عملوها الجماعة) وأكد احمد سليمان ان (البعد الخارجى فى مذكرة العشرة و انشقاق الاسلاميين كان كبيرا جدا) و قدم شواهد على ذلك في الحوار. وقال سليمان انه عندما تولى الترابي رئاسة المجلس الوطني الانتقالي في العام 1996 اجتمع الى مدير الادارة الافريقية بوزارة الخارجية الامريكية، روبرت اوكلى واخبره بان على واشنطن ان تقرأ رسالة الترابي الضمنية هذه جيدا وهي انه بانتقاله الى منصبه الجديد يعني تلقائيا تخليه عن قيادة المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي الذي كانت واشنطن تنظر اليه على انه اكبر تجمع للمعادين للمصالح الامريكية في المنطقة وانه واجهة للارهاب، حيث لن (أي الترابي) يجد الوقت بسبب الاعباء الكبيرة الملقاة على عاتقه نتيجة رئاسته البرلمان لإدارة ذلك الكيان (المؤتمر الشعبي العربي). لكن سليمان اضاف انه وجد الامريكيين معبئين بشدة ضد الترابي شخصيا ولا يثقون به وغير مستعدين لتقبل أى رأي أو خطوة ايجابية عن الترابي، فقد كانت صورته عندهم انه من اكبر المهددين لامنهم القومى ومصالحهم العليا وامن حلفائهم في المنطقة من خلال عقيدته في تصدير الثورة الاسلامية الى بلدان الاقليم. و ما يدلل على صلابة الموقف الامريكي تجاه الترابي انه طبقا لكارني واعجاز في مقالهما آنف الذكر كان قد أرسل رسالة غصن زيتون في أغسطس 1996م الى الرئيس الامريكي وقتها بل كلينتون (بناءً على نصيحة منصور إعجاز الذي قام بأدوار وساطة بين النظام السوداني وادارة كلينتون) ولكن لم يتلق ردا عليها . بل ان ابعاد الخرطوم لزعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن في ذات العام (مايو 1996) لم يغير نظرة واشنطن تجاهها رغم انه كان واحدا من حزمة مطلوبات في روشتة اصلاح العلاقة بين الخرطوم وواشنطن تقدم بها مدير قسم شرق افريقيا بالخارجية الامريكية، ديفيد شين والسفير الامريكي الاسبق بالخرطوم تيموثى كارني الى وزير الخارجية – وقتها – على عثمان محمد طه في حفل العشاء الاخير الذي اقيم لكارني بمنزل طه فى الثاني من فبراير 1996عشية مغادرته الخرطوم بعد قرار واشنطن اغلاق سفارتها بالخرطوم لأسباب امنية حيث سألهما وزير الخارجية السوداني عن ما ينبغى للخرطوم أن تفعله حتى تضمن مغادرتها للائحة واشنطن للدول الراعية للارهاب الموضوعة بها منذ العام 1993. فحدثه الديبلوماسيان الامريكيان طويلا عن اهم ما يجب على الخرطوم فعله في هذا الخصوص وكان على رأس القائمة موضوع اسامة بن لادن و بحسب تقرير بصحيفة (نيويورك تايمز فى سبتمبر 1998) فأن طه لم يلتزم حينها بإبعاد بن لادن ولكنه لم يعترض ايضا حيث امضى اغلب وقت اللقاء مستمعا للرجلين بينما استمر سعي الخرطوم الحثيث من اجل نيل الرضا الواشنطوني.

ويقول المحبوب عبد السلام فى تأملاته لعشرية نظام الانقاذ الاولى ضمن كتابه الموسوم (الحركة الاسلامية: دائرة الضوء و خيوط الظلام) والمحظور توزيعه داخل السودان، انه و بعد صعود علي عثمان محمد طه الى منصب النائب الاول للرئيس عقب رحيل سلفه الفريق الزبير محمد صالح في حادثة الطائرة بجنوب السودان في فبراير 1998، وبعد احكامه سيطرته على دفة العمل التنفيذي بالدولة فأن المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي بدا امرا نشازا مع روح العهد الذي يريد النائب الاول الجديد ان يستهله بهدوء و تعاون مع دول الجوار الاقليمي وخاصة مصر ثم الدولي وخاصة امريكا مشيرا لاستقبال الجهاز التنفيذي لدورة الانعقاد الثالثة للمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي بتحفظ شديد.

و كرّت مسبحة الايام حاملة في جوفها كثيراً من المتغيرات داخل نظام الانقاذ بعد المفاصلة..ساد البراغماتيون على العقائديين كما عبر كارني واعجاز فى مقالهما آنف الذكر وتوقفت النبرة والمساعي من اجل تصدير ثورة الاسلام الراديكالي الى الجوار.. تم حل المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي نهائيا وانخرطت النخبة الاسلامية الحاكمة عبر أجهزتها الاستخبارية في اكبر تعاون من اجل الحرب على الارهاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفتحت الخزانات والاضابير والبيوت الآمنة في الخرطوم للاجهزة الامنية والاستخبارية الغربية عقب زئير الرئيس الامريكي السابق بوش الابن (من ليس معنا فهو ضدنا) !.

قبل النظام الحاكم الدخول في مفاوضات سلام مع الحركة الشعبية – الجيش الشعبي لتحرير السودان تحت مظلة منظمة الايقاد وبرعاية غربية كاملة على اساس المقترح الامريكي الذي يقضي بقيام نظامين علماني في الجنوب وعلى المستوى القومي، واسلامي في الشمال، وابرمت على هذا اتفاقية سلام فى يناير 2005 اعطت الجنوب حق تقرير المصير بعد ست سنوات انتقالية، وجلبت اكثر من 10 آلاف من قوات الامم المتحدة و موظفيها المدنيين لمراقبة تنفيذها.

تثاقلت ارجل النظام نتيجة الارهاق من الجري وراء الجزرة الامريكية والغربية عموما وأحس متنفذون فيه انهم انما يمضون الى حتف نظامهم بظلفهم فالتفكيك الوئيد ينتظرهم وزنازين المحاكم الدولية تتضور جوعا الى قياداتهم، فأجهضوا عملية التحول الديمقراطي التي كانت مرجوة من تنفيذ اتفاقية السلام التي انتهت بانفصال الجنوب.. عاد النظام الى ترديد شعاراته الاولى مرة اخرى وفتح جبهات قتال جديدة فى جنوب كردفان والنيل الازرق فيما لم يتمكن من اخماد حريق دارفور الذي اشتعل بينما كان يحاول اطفاء حريق الجنوب، وضيّق الحريات العامة.

يوم 23 اكتوبر 2012 افاق النظام الحاكم والسودانيون مجددا على مغيرات ولكنها ليلا و ليست صبحا.. طائرات أجنبية قصفت مصنع اليرموك للتصنيع الحربي جنوب الخرطوم فدكته دكا..وانجلى الموقف على حقيقة ان الطائرات المغيرة كانت اسرائيلية وبحسب تقارير الصحف الاجنبية و الاسرائيلية ان الغارة الجوية استهدفت مصنعا للاسلحة الايرانية فى الخرطوم ينتج السلاح بمختلف انواعه ويهرّب عبر الحدود المصرية الى المقاومة الاسلامية الفلسطينية وحزب الله جنوب لبنان.. كان انذارا قويا للخرطوم لانه كان ايضا ضربة فى العمق وعلى بعد كيلومترات محدودة من مقرات الحكم ومخادع المسؤولين.. الانذارات الاولى كانت شفاهية طوال سنوات وتأتي عبر مصر مبارك متمثلة فى اطلالات مدير المخابرات المصري الراحل عمر سليمان ووزير الخارجية الاسبق ابو الغيط المتكررة على الخرطوم وحتى من خلال المباحثات المباشرة بين الرئيسين مبارك والبشير وكان مؤداها الابتعاد عن التحالف مع ايران آيات الله وايقاف تهريب السلاح الى الجماعات الاسلامية فى فلسطين !. ثم بدأت الانذارات تغلظ تدريجيا.. غارة اسرائيلية اولى في يناير 2009 على قافلة للسيارات بولاية البحر الاحمر قرب الحدود مع مصر، ثم تلتها ثلاث أُخر جميعها بمنطقة البحر الاحمر خلال الاعوام المنصرمة حتى وقعت واقعة الخرطوم فى هدأة الليل البهيم.

افاقت الخرطوم مجددا على حقائق القوة المادية وعمّق جرحها ان رد الفعل الدولى والاقليمى ومن الاشقاء كان خجولا.. اعتصم مجلس الامن بالصمت وتوارت اغلب البلدان العربية خلف ادانة خجولة من الجامعة العربية، و بحسب رئيس تحرير صحيفة “السودانى”، ضياء الدين بلال في مقال له وقتها ان التنوير الذي عقدته الخارجية السودانية للسفراء العرب والافارقة حول الضربة الاسرائيلية لم يكن بين حضوره ديبلوماسي واحد يرتدى العقال الخليجي !.

تطايرت التصريحات الرسمية من المسؤولين الانقاذيين التي تؤكد انهم لن ينحنوا و لن يغيروا سياساتهم ومواقفهم نتيجة للعدوان الاسرائيلى لكن على الصعيد الداخلي ايضا كانت ثمة مناقشات صاخبة تدور حول الجدوى السياسية من السير في خط التحالف مع ايران آيات الله. و بعد خمسة ايام من القصف الاسرائيلى لمصنع اليرموك أي في الثامن والعشرين من اكتوبر رست بارجتان حربيتان ايرانيتان في ميناء بورتسودان ورغم ان التوضيحات الرسمية اكدت ان رسو البارجتين هو زيارة تقليدية كانت مجدولة من قبل وليس لها أي علاقة بتطورات القصف الاسرائيلي لمصنع السلاح في الخرطوم إلا أن المحللين رأوا فى الخطوة رسالة واضحة من طهران والخرطوم تؤكد ان العلاقة بينهما استراتيجية، في الوقت نفسه الذي ذهب فيه المحللون العسكريون في الصحف الاسرائيلية الصادرة وقتها الى ان الضربة الاسرائيلية ماهي الا مواجهة مع ايران في ساحة خلفية هي السودان، فقد أوضح المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت 25 اكتوبر 2012» أليكس فيشمان أن المسألة ليست السودان وإنما إيران، وأن المصنع إيراني ويديره إيرانيون. وقال إنه «بغض النظر إن كانت العملية إسرائيلية أم غربية فإنها توفر فرصة للنظر إلى ما وراء ستار حرب الظلال التي تجري بين دول غربية ومنها إسرائيل، وإيران. وهي حرب عنيفة لمنظمات استخباراتية وقوات خاصة تجري في الكثير جدا من الجبهات: في جنوب لبنان وفي سيناء وفي غزة والبحر الأحمر وأريتيريا واليمن والسودان وغرب أفريقيا وأوروبا، وعلى أرض إيران أيضا. وفي الحقيقة فإنه في كل مكان نجح الإيرانيون في دخوله، صار هناك من «يهتم» بأفعالهم”.

وأضاف فيشمان «قبل أربع سنوات ونصف، أُبرم حلف دفاعي بين شمال السودان وإيران بحيث أصبحت هذه العلاقات ثابتة خطيا أيضا، وهكذا توجد اليوم في السودان مستعمرة إيرانية مستقلة تماما. وترسو سفن إيرانية في موانئها وتهبط المعدات والوسائل القتالية التي تُنقل إلى مخازن يديرها إيرانيون أيضا. ويعمل مئات وربما أكثر من الإيرانيين في هذا المصنع الضخم ويستعينون بالسودانيين”.

و طبقا لصحيفة (الحياة اللندنية 2 نوفمبر 2012 ) فقد القى وزير الخارجية، على كرتي بسؤال جرئ على اجتماع طارئ لقطاع العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر الوطني الحاكم فحواه: هل من مصلحة السودان الإستراتيجية في علاقاته الخارجية الاتجاه إلى تعزيز علاقاته مع دول الخليج العربي لضمان الحصول على دعم مالي واقتصادي وتوسيع استثماراته، أم الاتجاه لتوثيق علاقته مع إيران لأسباب تتعلق بطبيعة التحولات المرتقبة في ملف الصراع الاسرائيلي – الايراني في المنطقة، ووقوع السودان في منطقة رخوة ستجعل ظهره مكشوفاً في حال اضطر للمشاركة في أي مواجهة واردفت الصحيفة طبقا لتقارير صادرة في الخرطوم “أن الخرطوم لم ترد حتى الآن على طلب من طهران يحمل اقتراحاً بـ «تحالف مع السودان لحماية منطقة البحر الأحمر»، وذكرت أن الاقتراح لا يزال قيد الدراسة في مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية والحزب الحاكم “.

و انتهت الصحيفة الى أن النقاش في الاجتماع الحزبي كان ساخناً وشهد ملاسنات حادة، ما دفع بعض المسؤولين في القطاع الى مغادرة مقر المؤتمر الذي لم يقدم إجابة محددة في شأن سؤال وزير الخارجية.

و نقلت صحف الخرطوم الصادرة يوم 5 نوفمبر عن نائب رئيس الجمهورية، الحاج آدم قوله : «نقبل التحدي ولن يخيفنا الهجوم ولن يغير قناعتنا بعلاقاتنا مع أية دولة، وهذه العلاقات ستستمر مع من نشاء وسنقطعها مع من نشاء وندعم من نشاء» و بحسب صحيفة (البيان الاماراتية 5 نوفمبر 2011 ) فقد “دافع وزير الإعلام الناطق باسم الحكومة ، أحمد بلال عثمان للقناة السودانية عن قرار السماح للقطع الحربية الإيرانية بالرسو في بورتسودان، ووصف علاقة السودان بإيران بالاستراتيجية وقال إن السودان يمتلك القدرة اللازمة للرد على الهجوم الإسرائيلي ملمحاً إلى إمكانية ضرب المصالح الإسرائيلية في المنطقة، حيث أشار إلى أن لدى إسرائيل مصالح في العديد من بلدان المنطقة”.

وفى اكبر مؤشر على التباين داخل النظام السوداني حيال العلاقة مع طهران خالف وزير الخارجية، على كرتي في حديثه لقناة النيل الأزرق مساء ذات اليوم الذي صرح فيه نائب الرئيس و الناطق باسم الحكومة تصريحيهما اعلاه مبديا امتعاضه من رسو قطع حربية إيرانية في المياه الإقليمية السودانية، ووصف قرار الحكومة السودانية بالسماح لتلك القطع بالخاطئ، كاشفا أن وزارته لم تعلم بالأمر إلا من خلال وسائل الإعلام. و شدّد على ضرورة أن تلتفت الحكومة السودانية إلى علاقاتها مع دول الخليج أكثر من اهتمامها بالعلاقة مع إيران، مؤكداً في هذا السياق على أن علاقات السودان الخارجية تضررت كثيراً خلال الفترة الأخيرة بسبب إزدواجية الرؤى داخل الحكومة السودانية وقال إن كل ما تفعله وزارته من أجل ترميم العلاقات الخارجية يواجه بقرارات وتصرفات تصدر عن (جهات) أخرى داخل الحكومة، الأمر الذي يؤدي إلى نسف تلك الجهود.

و مع ان كرتي لم يفصح عن تلك (الجهات) الاخرى داخل الحكومة التي تنسف عبر تصرفاتها جهود وزارته من اجل ترميم العلاقات الخارجية الا ان النظرة الفاحصة تشير إلى من هم المتمنعون داخل نظام النخبة الاسلامية الحاكمة عن ركوب القطار المتجه غربا وماهي اسبابهم في ذلك في الوقت الذي ركب فيه رصفاء لهم داخل النظام و ظلوا يبحثون عن تحسين وضعهم داخله طوال السنوات الماضية. فقد قال الرئيس البشير في كلمة القاها في المباحثات بينه وبين الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد التي جرت بينهما بالخرطوم فى سبتمبر 2011 «نحن راضون تمام الرضا عن مستوى ومسيرة العلاقات بين بلدينا في كافة المجالات، ونتطلع لمزيد من التعاون مع ايران، ونفتح ابواب الاستثمار على مصراعيها لتكامل الجهود والخبرات والإمكانيات لتحقيق شراكة فاعلة بما يعود بالخير لمصلحة شعبي البلدين والامة الاسلامية” في الوقت نفسه اوضح الرئيس الايراني في كلمته “ان مباحثاته مع البشير تطرقت لكافة مجالات التعاون المشترك وانهما اتفقا على تطويرها والارتقاء بها، مؤكدا انه لاتوجد قيود اوعقبات لسقف علاقات التعاون المشترك بين طهران والخرطوم وشدد على أن ايران والسودان سيظلان عصيين على دول الاستكبار، ولن يخضعا لها” (الصحافة 27 سبتمبر 2011 ).

وكانت صحيفة (السياسة) الكويتية قد نشرت في عددها الصادر يوم 27 سبتمبر 2011 تقريرا كشفت فيه عن (تقييم) وضعه مستشارو الرئيس الايراني ، نجاد ووافق عليه المرشد الاعلى، على اكبر خامنئي (بتحفظ)، توقع ان لا يصمد نظام بشار الاسد فى سوريا الحليف الرئيس لإيران آيات الله في المنطقة لأكثر من نهاية شهر مارس 2012 تحت ضغط الثورة المضادة له مرجحا ثلاثة سيناريوهات سينتهي اليها، الاول حدوث انقلاب يطيح بالاسد بتدبير من الولايات المتحدة وحلفائها الاوربيين والعرب والثاني اغتيال الاسد ومعاونيه المقربين و الثالث وهو ما حدث بالفعل ان تسقط سوريا في اتون حرب اهلية شاملة. و اضاف التقييم ان نجاد يوشك ان يتخذ قرارا بالتخلي عن الاسد كما فعل رئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان والبحث عن حليف بديل يؤمن له التدخل في المنطقة و انه لم يجد انسب من الرئيس السوداني عمر البشير. و في الغالب ان التقييم الايراني انبنى على (غبينة) البشير الشخصية من الغرب واسرائيل وصراعه معهما بسبب تسليط المحكمة الجنائية الدولية عليه وانسداد أي افق عليه من امكانية اصلاح علاقاته مع اوربا او امريكا اضافة الى الوجود الاسرائيلي على حدوده الجنوبية بعد ان انفصل الجنوب عن بلاده واتهامه له بانه وراء الصراعات المتجددة في بلاده. لكن و بحسب التقييم الايراني نفسه فأن المرشد الاعلى خامنئي يرى ان هذه هي ازمات البشير التي يمكن ان تكون من نقاط ضعفه وان حكمه ايضا مهزوز وقابل للسقوط بسبب اشتداد المعارضة الداخلية عليه وان وضع نجاد كل البيض في سلة البشير يعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب.

لكن فجأة اعلنت الرئاسة السودانية فى نشرة صحفية يوم 5 نوفمبر2012 ان الرئيس البشير توجه إلى السعودية في زيارة خاصة للقاء الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز ومسؤولين سعوديين وإجراء فحوص طبية . واحيطت الزيارة بتكتم عالى وغطى على ما يمكن ان يتمخض عن المباحثات الثنائية المهمة بين القيادتين فى خضم ملابسات ضرب مصنع اليرموك للتصنيع الحربى ، غطى عليها الدخان الاعلامى الكثيف الذى صاحب الحالة الصحية للرئيس البشير . و بالفعل اعلن فى اليوم التالى ان البشير اجرى عملية جراحية ناجحة ازالت التهابات حادة فى حنجرته بينما طوى ما دار بينه و بين العاهل السعودى فى غياهب العتمة ! .

الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لا يتحدثون الى الرئيس البشير مباشرة منذ صدور مذكرتى الاعتقال الصادرتين ضده من قضاة المحكمة الجنائية الدولية فى مارس 2009 و يوليو 2010 واللتان تتهمانه بأرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية و ابادة جماعية فى اقليم دارفور ويرى اغلب المحللون ان الرسائل الامريكية والغربية الخاصة جدا للبشير تصله عبر (اشقائه) السعوديين والقطريين الى جانب مصر مبارك قبل الثورة ، ويسند هذه الرؤى انه كلما احاطت المحن الداخلية او الخارجية بالخرطوم طار البشير فجأة الى الدوحة فى الغالب او الرياض ، لذا فانه و بعد (العصا) المتمثلة فى قصف اليرموك و اكتشاف البشير و نظامه عزلتهم غير المجيدة عبر البحر الاحمر الى الرياض ليرى ما اذا كانت هنا (جزرة) لكن مباحثات الغرف المغلقة بينه و العاهل السعودى تجلت جزرتها فى تقرير مجموعة الازمات الدولية (الامريكية) و ذات التأثير الكبير فى تشكيل القرار الدولى خاصة المتعلق منه بالسودان ، فقد اوصت المجموعة فى تقريرها المعنون ب(السودان : اصلاحات واسعة ام مزيدا من الحروب) الصادر فى ديسمبر العام الماضى اى بعد نحو شهر من مباحثات البشير فى الرياض ، اوصت الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، والسلم الافريقي مجلس الأمن ومجلس جامعة الدول العربية : ب (تقديم الحوافز للرئيس عمر البشير، وكذلك النخبه من حزب المؤتمر الوطنى الحاكم لإنشاء حكومة انتقالية وبحزم وبشكل لا رجعة فيه لوضع السودان على طريق الفترة الانتقالية، بما في ذلك :

المساعدة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، مثل تطبيع العلاقات ورفع العقوبات، التعجيل بتنفيذ مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (HPIC) وغيرها من تدابير تخفيف عبء الديون، شريطة أن يتم استيفاء معايير خارطة طريق المرحلة الانتقالية ويتم إحراز تقدم في المفاوضات مع جنوب السودان فى القضايا العالقة) . و كان الحافز المقترح للرئيس البشير هو تفعيل المادة (16 ) من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية و الذى يقضى بتأجيل تنفيذ مذكرة القبض الصادره ضده لعام او عدة اعوام حسب مقتضى الحال ، و قد راج فى الاوساط السياسية ان –البشير- تلقى عرضا سعوديا للتقاعد و الاقامة الدائمة بالاراضى المقدسة مع الالتزام بتوفير الامن من الملاحقة القضائية من المحكمة الجنائية الدولية . و يبدو ان هذه هى المساومة الممنوحة للبشير و النخبة من حزبه الملاحقة من المحكمة الجنائية الدولية .. التنحى مقابل التأجيل و عدم الملاحقة

وبدأت البلدان فى تقديم جزراتها المشروطة على الخرطوم ، فقد اعلنت بريطانيا على لسان وزيرة التنمية الدولية ، لين فيذرسون باعفاء ديونها على السودان و البالغة بليون دولار كليا اذا ما احرزت تقدما حقيقيا فى حل النزاعات الداخلية (الصحافة 24 يناير 2013 ) فى الوقت الذى اعترف فيه المبعوث الرئاسى الامريكى ، برنستون ليمان فى مقابلة مع صحيفة (الشرق الاوسط اللندنية 2 يناير 2013 ) ان السودان يواجه عقوبات دولية قاسية ولكنه شدّد على ان الحكومة ينبغى الا تلوم الاّ نفسها لعدم تغييرها سياستها الداخلية و استمرارها فى اشعال الحروب ضد معارضيها بينما رفضت اتباع خطوات معينة من اجل العودة الى الاقتصاد العالمى .

يبدو انها حسابات الاقتصاد هذه المرة.. ففي الاسبوع الاول من يناير الجاري عادت الخرطوم لترتدي (القطرة و الدشداشة) الخليجية، علها تغطي عورتها الاقتصادية التي انكشفت بانفصال الجنوب وفقدان ثلاثة ارباع الانتاج النفطي الذي كان العمود الفقري لاقتصادها المنهك، فقد قال وزير الاستثمار، مصطفى عثمان اسماعيل في لقاء مع صحيفة (البيان الاماراتية 5 يناير 2013 ) “علاقاتنا مع إيران في المقام الأول هي علاقات عادية «غير محورية»، ثم تأتي المصالح المشتركة بين البلدين. حتى الآن لم نلحظ لا استثمارات ولا مشروعات إيرانية معتبرة بالسودان”. و في اليوم التالي 6 يناير نفى الوزير بشدة فى تصريحات لصحيفة (الشرق الاوسط) أن يكون “السودان يسعى لبناء شراكة استراتيجية مع إيران على حساب الدول الخليجية والعربية”، مدللا على ذلك بأن “حجم الاستثمار الخليجي في بلاده يتجاوز الـ30 مليار دولار، في حين أن الاستثمار الإيراني يساوي صفراً” !.

لكن الوقائع القريبة جدا في مضابط علاقات السودان و ايران تقول بخلاف ما صرح به الوزير مصطفى عثمان اسماعيل، فبحسب صحيفة (الصحافة 8 مايو 2012 ) فقد (أعلن مساعد الرئيس الإيراني، على سعيد لو، أن البلدين وقعا خلال زيارته للخرطوم اتفاقيات بقيمة 400 مليون دولار، معلناً تضامن بلاده العميق مع السودان وكشف عن خطط ترمي لزيادة حجم التعامل الاقتصادي بين البلدين وصولا الى 2 مليار دولار في العام لتحقيق اكبر قدر من المكاسب للشعبين). ومن ناحيته، اكد مساعد رئيس الجمهورية رئيس الجانب السوداني في المباحثات، نافع علي نافع “ان كلا من السودان وايران مستهدفان على اساس التوجه والفكر بهدف الاضرار باقتصاد البلدين قائلا « مصممون على هزيمة هذا الاستهداف» مشيرا الى ان السودان سيظل على تواثق وتعاهد مع ايران لمصلحة الشعبين والامة الاسلامية”.

غير ان الاستهداف الذي يتعرض له السودان و ايران على اساس (التوجه و الفكر) – كما ذهب نافع – بنظر كثير من المراقبين هو العقدة الاساسية التي وسمت علاقات البلدين وربما جعلتها تتعثر، فالخلاف المذهبي كبير جدا بين ايران الشيعية و النظام السوداني الذي يتبنى توجها يقوم على فكر الاخوان المسلمين ذي المرجعية السنية مع تحالفات وثيقة من جماعات سنية سلفية شديدة الخصومة للمذهب الشيعي، فطبقا لصحيفة (الصحافة 27 ديسمبر 2012 ) اتهم القيادي بحزب المؤتمر الوطني وزير الثقافة السابق، السموأل خلف الله اثناء مخاطبته لمؤتمر امناء الثقافة بحزبه بالولايات، (جهات معارضة باستغلال مراكز ثقافية لدول استعمارية وأخرى وطنية لممارسة أنشطة سياسية ضد الفكر الاسلامي والفطرة الانسانية، لافتاً الى أن بعض المنظمات الثقافية السودانية تعمل على نشر الفكر الشيعي رغم عدم قناعتها به).

و تضغط الجيوب السنية الاكثر سلفية بين مكونات النظام الحاكم منعا لأي تأثير شيعي في البلاد حيث اجبرت السلطات على اغلاق الجناح الايراني في معرض الكتاب الدولي بالخرطوم في العام 2007 بحجة احتوائه على كتب مسيئة لصحابة النبي (صلى الله عليه وسلم) رضوان الله عليهم، و دعوا الرئيس البشير الى اغلاق المستشارية الثقافية الايرانية بالخرطوم. و كان وزير الارشاد والاوقاف الاسبق رئيس مجمع الفقه الاسلامى حاليا، عصام احمد البشير قد صرح اثناء قضية (استتابة) النيل ابو قرون الموصوف بالميول الشيعية على اصداره كتاب (رسائل الصحابة) فى العام 2002 اعتبرا مسيئا لصحابة النبى ، بأن (السودان دولة سنية) الامر الذي جعل كثيراً من المراقبين يتساءلون عن كيف يصرّح مسؤول في الدولة بمذهبها الديني في الوقت الذي سكت فيه دستورها على علاته وقتها عن تحديد دينها نفسه ؟!.

و لعل الخلاف المذهبي العميق بين الشيعة والسنة هو ما حدا بزميل البحث فى معهد الابحاث الدولية في جامعة استانفورد الامريكية ورئيس تحرير مجلة (ديزايت)، جوزيف جوف في مقالته الشيقة الموسومة (عالم بلا اسرائيل) بمجلة (فورن بوليسي عدد يناير فبراير 2005 ) الى القطع بانه حتى وإن لم تكن اسرائيل موجودة في قلب العالم العربي والاسلامي فأن العلاقات بين بلدانه ربما كانت في أسوأ حالاتها بسبب حزمة من الاسباب ذكر من بينها الخلاف المذهبي العميق بين السنة والشيعة وتجلياته في العلاقات بين بلدان المنطقة وبين شعب البلد الواحد !.

و عودا على بدء هل يستمر محور الخرطوم طهران الوثيق والذي كان قد أرسى قواعده الرئيس الايراني الاسبق، على هاشمي رافسنجاني عندما زار خرطوم الخلافة الاسلامية فى ديسمبر 1991 على رأس وفد ضخم قوامه 150 مسؤولا معلنا من فوق منابرها ان (الثورة الاسلامية في السودان الى جانب ثورة ايران الرائدة بامكانهما، وبلا أدني شك، ان تكونا مصدرا للحركات والثورة في كل العالم الاسلامي ) مقدما دعماً بـ17 مليون دولار للنظام الاسلامي المقاطع عربيا ودوليا وسدد 300 مليون دولار ثمنا لمشتريات اسلحة صينية طبقا لما اورده الصحفي الكبير، عبد الرحمن الامين في مقال له بصحيفة (الراكوبة الالكترونية 25 اكتوبر 2012) . ام تصدق (تحفظات) المرشد الاعلى الايرانى على (التقييم) الموضوع من قبل مستشارى الرئيس الايرانى ، نجاد ؟ كيف ستتعاطى الخرطوم المتباينة الرؤى والمثقلة بالضغوط مع المطلوبات الداخلية والخارجية وخاصة ما بعد الكرباج الاسرائيلى المتمثل فى قصف مصنع اليرموك، كيف ستحسم اختلاف الرؤى داخلها .. هل ستستمر فى نهجها الذى لا يرى فى الضغوط الدولية الاّ انها محض ضغوط و املاءات ام تعقل انه كلام الله لها لها ايضا ؟ !.

[email protected]

هذا المقال نشر ايضا في جريدة الصحافة في تاريخ 26 يناير 2013

Leave a Reply

Your email address will not be published.